خــاص
في الظاهر، يسعى الثنائي الشيعي إلى فرض إيقاع انتخابي هادئ على مجمل البلدات الشيعية، تحت عنوان “التوافق”، ووفق آلية التزكية التي يُفترض أنها تعكس وحدة الموقف الشعبي وتماسك البنية الداخلية. لكن خلف هذا المشهد المنمّق، تتكشّف وقائع ميدانية تناقض الخطاب الرسمي وتطرح تساؤلات جدية عن شرعية هذه التزكية نفسها ومدى مقبوليتها، في ظل تجارب بلديّة ماضية لم تكن ذات قبول شعبي، بصرف النظر عن مدى التأييد السياسي والشعبي الذي يحوذه الثنائي.
مصادر مطلعة داخل الثنائي تتحدث عن إنجاز توافقات في نحو 70% من بلديات الجنوب، و60% من بلديات البقاع، ضمن تفاهمات محلية تراعي “الاعتبارات العائلية والاجتماعية”. وتؤكّد المصادر أن هذه الصيغة “لم تفرض من فوق بل رُتّبت بالتنسيق مع الفعليات المحليّة والعائليّة في محولة لصوغ مشهد بلدي تشاركي”. لكن المراقب لتفاصيل ما يجري، يلحظ أن هذه التفاهمات ليست دومًا نتاج حوار أو قبول جماعي، بل كثيرًا ما تأتي بصيغة فرض ناعم تحت عنوان “التحديات والمخاطر الداهمة”، وتُقدَّم للعائلات المحلية كأمر واقع لا مجال للاعتراض عليه.
في البقاع تحديدًا، تسقط الرواية الرسمية عند أول اختبار جدّي: بلدات أُدرجت ضمن “قائمة التزكية” سرعان ما صدرت منها بيانات تتحدث عن تشكيل لوائح منافسة، غالبيتها من العائلات، ما يعكس وجود مزاج محلي رافض لمبدأ الإقصاء والاحتكار، ولو تحت عباءة “الوحدة”. الأهم أن هذه الحراكات لا تُدار من المعارضة الشيعية التقليدية، التي دخل معظمها في ترتيبات مع “الثنائي” تحت عنوان تشاركي: “مراعاة وضع الطائفة ما بعد الحرب”، بل تتولاها فئة جديدة من المعارضين الناشئين الذي يتخذون من الشؤون البلدية والإنمائية مدخلاً للاعتراض، لكن خلفه يتخفى شعور متزايد بالتهميش السياسي.
الجنوب ليس بمنأى عن هذه الموجة. فرغم النسبة المرتفعة المُعلنة من “البلدات المحسومة”، إلا أن الواقع يشي بخلاف ذلك. نقاشات حادة تجري داخل العديد من القرى، وتحديدًا بين العائلات التي ترى أن التزكية تقطع الطريق على حقها بالمشاركة، وتحوّل الانتخابات إلى مسرحية محسومة سلفًا. أما البلدات الواقعة جنوب الليطاني، فتغيب عنها أي دينامية انتخابية تُذكر، ما يثير علامات استفهام حول ما إذا كانت حالة الركود هذه دليل توافق فعلي، أما أنها محاولة جديّة لإسقاط أسماء في ظل حالة الإنشغال بما خلّفته الحرب.
نتائج الحرب جعلت من الإستحقاق البلدي يلتحق بعنوان سياسي لا إنمائي
الهدف الحقيقي من هذا النهج، بحسب مطّلعين، ليس تحقيق التوافق بقدر ما هو تطويق أي اختراق سياسي محتمل داخل البيئة الشيعية، خصوصًا في ظل تحضيرات مبكرة للاستحقاق النيابي العام المقبل. بعبارة أوضح: الثنائي يريد تطويق أي مظهر للتململ قبل أن يتحول إلى حالة سياسية واضحة، ويستغل الاستحقاق البلدي لإعادة ضبط الإيقاع الداخلي.
لكن هذا الخيار، الذي يُسوَّق تحت شعار “الحفاظ على الاستقرار”، يبدو أنه يرتدّ تدريجيًا على أصحابه. فكلما توسّع نطاق التزكية، اتسعت رقعة الاعتراض المحلي، وبرزت الحاجة إلى أسئلة لم تعد الأصوات الرسمية قادرة على تجاهلها: هل ما يُسمّى “توافقًا” هو فعلًا اتفاق مجتمعي، أم مجرّد تسوية تفرضها موازين القوى؟
الاستحقاق البلدي الحالي يبدو أشبه باختبار سياسي مبكر للثنائي الشيعي، ليس فقط في ما يخص النفوذ، بل في قياس المزاج الشعبي. وما لم تُقرأ هذه المؤشرات بجدية، فقد تتحول المعركة المؤجلة إلى مواجهة لاحقة، تتجاوز حدود صناديق البلديات.